إنداري ✍️ خضر امواس

بسم الله الرحمن الرحيم

إنداري*

يجلس الطبيب ربيع الحافي ، مدير مستشفى بيت لحم في فلسطين للأمراض النفسية والعقلية ( الدهيشة ) في جلسة تقييم أولي لحالة وصلت للتو ، ويقول للمريض :
– هيّا قص الحكاية وأفصح عما يجول في خاطرك ، “من طقطق لسلام عليكوا “* وتحدث بما تشاء وكيف تريد ، فأنا في خدمتك ومساعدتك ما استطعت سبيلاً …
يرد عليه ناجي الأخرس ، وقد بدت الغرابة والدهشة على تقاسيم وجهه ، وهدّه التعب ، وشعر بحكة في ذراعه ، كأنها مكان شوكة ، فحكها ؟! وأحس بضيق في صدره وكتم على نفسه ويبس في ريقه !! هو بحاجة إلى راحة جسدية وفضفضة روحية … يطلب شراباً وسيجارة ، فيفضل عليه الطبيب بكوب ساخن من المريمية التلحّمية وعلبة سجائر كاملة … يرشف ناجي حسوة طويلة ، ثم يقول :
– وقتك سعادة يا سعادة الحكيم ، آخر ما أذكره ، حوار طرشان عاصف مع رئيس بلديتنا ، وكان محوره : يا عزيزي المسؤول ، هلا تخطيّنا ” البروتوكول “والنمط المعهود بتزويد المواطنين بالخدمات الأساسية ، وحاولنا إيجاد وابتكار مشاريع زراعية وصناعية وثقافية و … ، فرد عليّ نزقاً :
– لو سمحت هذا ليس من إختصاصنا ، وأظنك تعديّت الخط الأحمر و …
– ولا أعرف ما حصل معي بعدها ، ثم وجدت نفسي ماثلاً أمامك بالصورة التي ترى ، ولا أدري كيف ولماذا سحبت من مقعد مثقف محاور وحريص في مبنى مصلحة عامة ، إلى كرسي مريض بحاجة إلى متابعة في حصن المجانين !!
– إسترخ وهوّن عليك يا صديقي ، فالحياة لا تسير وفق تصورنا ، وهي تتعدى النظريات والأفكار ، ولكن حدثني عن نفسك ( مؤهلاتك وظروفك ومهنتك ) باختصار …
– لك ما تريد ، فأنا وأنت في قارب واحد ، وأبناء همّ ورسالة واهتمام واحد ، يعني شركاء .
– وكيف ؟
– أسمي ناجي الأخرس ، حصلت على شهادة جامعية في علم الإجتماع والفلسفة من جامعة هولندية ، وعملت هناك لمدة عامين مشرفاً في برنامج تأهيل لمرضى نفسيين يسمى” ظُلموا “. حيث يعمل هؤلاء في مزارع الأبقار ، ويلقون معاملة خاصة ورقيقة مبنية على أسس علميّة مدروسة ، فيصبحوا حرفين ومنتجين في أحضان الطبيعة ، ويتفوقوا على المزارعين في العطاء والتفاني في العمل ، ورويداً رويداً يميلون إلى التكيف وأخيراً التعافي ….
– تفكير راقي وتجربة تستأهل الإحترام ، ثم ، أكمل …
– ثم عملت متطوعاً في مشفى الفحيص للأمراض النفسية – الاردن – لمدة عام ، وأخيراً ، رست مراكبي في وطني لأجد نفسي أو أبحث عن غيري … لاحقت الوظائف وطاردتها ، فهربت مني !!
– عفواً ، والآن …
– أعمل محاضراً في مركز الأعصاب الهادئة في مدينتي بنظام العمل الجزئي ، وأتابع حالات خاصة وسريّة للغاية في محيطي !!
– عزيزي ، حقاً حديثك ماتع وشيّق ، هل أخبرتنا عن غرابة خبرتها في غربتك ؟
– هناك الكثير الكثير ، ولكن ما الفائدة إذا قررنا السماع والفرجة وإبداء الإعجاب فقط ، إنداري !!
– أتركنا من الآخرين وبلادهم البعيدة فهي بعيدة المنال ، ولنتحدث عن حوالينا وقدراتنا ، لو تفضلت وقلت رأيك بصراحة في الاوضاع التي يسير عليها البلد ؟
– يا حضرة الحليم ، سؤالك عريض وهو بحاجة إلى مختصين وجلسات ومجلدات و … أولها ، السياسة وما أدراك ما السياسة فمشتغلوها كثيرون ، لذلك نأيت بنفسي عنها لأني أميل إلى التميز ، وأما ثانيها ، إقتصادنا فهو معاكس لكل نظريات الإقتصاد في الدنيا ، ففيه فرضيات تستعصي على الفهم !! ولكن سأعزف على وتر يلامس لحنه عيشنا ، وجرحه ينزف من دمنا ، ألا وهو الإنهيار الأخلاقي والقيّمي ، حيث أن الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والإجتماعية ، تزاحم العلل الجسدية بل قد تجاوزها ، والحديث يطول ( الكذب والتدليس والنفاق والرياء والتطفل وفرض الرأي ، وفضح الخصوصية ، والتسلط والإحتيال والنصب والتقليد والإستغلال ، والتنمر والهمز واللّمز والغيبة والنميمة والتهميش ، ووباء الأنا و”الهيبة ” وتغوّل صيغة “أفعل ” ، وغلبة المظهر على الجوهر ، والبكاء على الماضي واجتراره وتمجيده ولطمه أحياناً ، والحسد والغيرة والشعور بالدونيّة ، و الإعتداء والظلم والإلغاء والشطب والعُجب والإحتواء ، والغش والإحتكار والنجش وغلاء الأسعار و … )
أشار ربيع بيده ، قائلاً :
– كفى ، أنصحك بالتوقف يا صديقي ، فالسلسلة تكاد لا تتوقف … ولكن هل أخرجتنا من دائرة الظلام المعشعش فينا إلى ومضة أمل ، وعرّجت على غذاء العقل والروح – القراءة مثلاً ؟
– كما تشاء ، في وقت فراغي أتنقل كنحلة بين بساتين المعرفة ، وأكثر ما يشدّني هو الأقرب إلى إختصاصي ، وآخر ما وقعت عليه عيني ، رواية ” مجانين بيت لحم” للكاتب أسامة العيسة ، حيث وصف فيها حالات ماضية وحكايات فلسطينية ، وربطها تاريخيّاً بأحداث حدثت وأخرى متخيلة ، يُجريها على ألسنة شخوصه العقلاء والمجانين …
يبتسم الطبيب ربيع ويقاطعه ، قائلاً :
– إحتسي المريمية وخذ إستراحة ، فأنا أيضاً قرأتها بتمعن وخلصت إلى أن “الجنون فنون “* كما يقال … ففي صفحة 250 ، يقول العيسه : ” الجنون في نهاية الأمر إمتياز ، فالمجنون يعيش دون تكليف أرضي أو سماوي ” . ويكمل الطبيب : في الواقع يا عزيزي ناجي إن الحديث معك ذو شجن وفائدة ، وأحب أن أستمر ولكن الوقت والوظيفة لا يسمحان ، وختاماً كل الإحترام ، وأعتقد أن إحضارك إلى هنا كان سوء فهم وتقدير ، فتستطيع المغادرة وعلى الرحب والسعة ، وأعدك أن أعمل جاهداً لتلتحق وتنضم لأسرتنا ، فأنت قيمة وقامة وخبرة علمية وعملية ، يحسن الإفادة منها … يبتسما ربيع وناجي ويتصافحا ، ويغادر الأخير وقد شعر بارتياح وانزياح إلى الأمام ، كيف لا وقد وجد من يسمعه ويفهمه ….
وصل ناجي الطريق العام ، ولوح بيده لاي سيارة أجرة تقله إلى مكان سكنه ، ثم توقفت إحداهن ومشى نحوها ، وأمسك بمقبض الباب ليفتحه ، ولكن السائق باغته سائلاً : الأخ محاضر في جامعة بيت لحم الأهلية – الجامعة قريبة من المكان – فأجاب ناجي : كلّا ، كنت في زيارة لمستشفى الأمراض العقلية ، شهق الركاب واحمرّ وجه السائق ، وقال بفظاظة وتوجس : ” لو سمحت لا مكان وسعة لأمثالك ، أنصحك بالعودة لعند أصحابك ، وأبلغهم سلامي و bye … ” . ثم داس على “دعسة” البنزين وفرّ هارباً ، تاركاً ناجي على الرصيف يتفس الغموض والغبار !! قعد ناجي أرضاً ومدّ رجليه أمامه واسترخى ، وأشعل سيجارة … ثم تكلم مع ذاته همساً لم يسمعه سواه ، فقال : حسبي الله ونعم الوكيل على قلة العقلاء ، أيعقل أن مستشفى عمره مئة عام ، وفيه بضع مئات من الأسرّة ما زال كافياً ؟! فالحياة تطورت وتغيرت وتعقدت ، وزاد وتضاعف عدد الناس والأمراض ، وبقي هذا الصرح وحيداً يتيماً وعصياً على التغيير ، عجباً ، عجباً … ثم فكر ناجي أن يرجع لصديقه ربيع ويعرض عليه فكرة آنية هبطت عليه كالوحي ، وهي : فتح أبواب قلعة المجانين – المستشفى – وترك الخيار للنزلاء بالبقاء أو المغادرة ، ثم عمل سلك شائك يطوق به من هم بالخارج !! عندئذٍ ، أحس ناجي أنه ليس بناج ، وشعر بكلام مبتور وأصوات متداخلة في رأسه يسيران في كل الإتجاهات ، ولم يعد يقوى على النهوض ، وبدت الأشياء أمامه وكأنها تركض وترقص وتدور في ضباب !! وقال : إنداري !!
————————
* كلمة تعني لا أدري ، وتقال لقلة الحيلة أو التعجب .
* مثل شعبي يعني من البداية حتى النهاية .
* مثل شعبي فلسطيني .
*

نُشر بواسطة محمد الموسى

رئيس مجلس إدارة ملتقى أدباء الشرق

أضف تعليق

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ